يرحم الله من قال: من صاحب الملوك بلا أدب، جرَّه ذلك إلى الهلاك والعطب.
وليس كأدب الأنبياء مع مولاهم: فانظر إلى سيدهم وسيد ولد آدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17].
قال ابن القيم: إن هذا وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام؛ إذ لم يلتفت جانبًا، ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب، والإخلال له، أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلع أمام المنظور، فالالتفات زيغ، والتطلع إلى ما أمام المنظور طغيان ومجاوزة، فكمال إقبال الناظر على المنظور ألا يصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة، ولا يتجاوزه.
وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر صلى الله عليه وسلم، تواطأ هناك بصره وبصيرته، وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره، فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته، فهو أيضًا حق مشهود بالبصر، فتواطأ في حقه مشهد البصر والبصيرة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12]، أي: ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره[1].
فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم لما تأدب مع الله عز وجل، ووقف عند حده رفعه الله رفعة ما بعدها رفعة، فأعطاه الله المقام المحمود.
أُفُق وضيء طليق مرفرف، عاش فيه قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم وبصره..
هي لحظات خص بها القلب المصفى، وأدب من بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز رتبته، وكله شوق، فأعطاه الله ما لم يعط أحدًا غيره.
من تواضع لله رفعه، لما تأدب بصر نبينا صلى الله عليه وسلم أثني الله عليه، ويسجل هذا في الكتاب الخالد، وهل بعد هذا من جزاء؟!!
والجزاء من جنس العمل.
وانظر إلى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، الذي جاء ربه بقلب سليم، عن ابن عباس أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك».
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما من الله فبلى.
هذا الذي لم يتزود إلا التسليم، قال الله تعالى للنار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
فلما رأينا محبًّا في بيداء الوجد يهيم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
قال السدي: كان معه في النار مَلَك الظل.
لم يلتفت إبراهيم حتى إلى جبريل، وسلم لله، فاستحق أن يكون خليلًا للرحمن، وهمَّ بذبح ولده، وآثر الله على من سواه، فآثره الله على من سواه.
وتعالَ أخي.. إلى العلماء الذي تأدبوا مع ربهم، وخافوه، ما خافوا سواه.
من عظم وقار الله في قلبه أن يعصيه، وقَّره الله في قلوب الخلق أن يذلوه، انظر إلى الحافظ الصادق القدوة العابد، عبد الغني المقدسي، الذي كان لا يصبر على إنكار المنكر إذا رآه.
ذُكر أن العادل حاكم مصر قال: ما خفت من أحد، ما خفت من هذا.
فقلنا: أيها الملك! هذا رجل فقيه، قال: لما دخل ما خُيل إليّ إلا أنه سبع[2].
قال أبو بكر بن أحمد الطحان: كان بعض أولاد صلاح الدين، قد عملت لهم طنابير، وكانوا في بستان يشربون، فلقي الحافظ عبد الغني الطنابير فكسرها، قال: فحدثني الحافظ قال: فلما كنت أنا وعبد الهادي عند حمّام كافور، إذا قوم كثير معهم عصيّ فخففت المشي، وجعلت أقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فلما صرت على الجسر لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كسرت لكم شيئًا، هذا هو الذي كسر، قال: فإذا فارس يركض فترجّل وقبل يديّ، وقال: الصبيان ما عرفوك، وكان وضع الله له هيبة في النفوس[3].
لما هابوا الله وحده هابتهم الملوك.
انظر إلى الإمام الحسن البصري، لما قدم عمرو بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن البصري والشعبي، وأمر لهما ببيت، فكانا فيه شهرًا ونحوه، ثم جاء عمرو إليهما، فسلم ثم جلس، معظمًا لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك كتب إليّ كتبًا أعرف أن في إنفاذها الهلاك، فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريا لي في متابعتي إياه مخرجًا، فقال الحسن للشعبي: أجب الأمير، فتكلم الشعبي كلامًا يريد به إبقاء وجهه عنده أي: يريد إرضاءه فقال ابن هبيرة للحسن: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ قال: أقول يا ابن هبيرة، أوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمرو بن هبيرة! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك، فيغلق به باب المغفرة دونك، يا عمرو بن هبيرة! لقد أدركت ناسًا من صدر هذه الأمة، كانوا عن هذه الدنيا وهي مقبلة، أشد إدبارًا من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمرو بن هبيرة! إني أخوفك مقامًا خوفك الله عز وجل فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]، يا عمرو بن هبيرة! إنك إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد على معاصي الله وكلك الله إليه.
فبكى عمرو بن هبيرة وقام بعبرته، فلما كان من الغد أرسل إليهما، فأدناهما وأجازهما فأكثر في جائزة الحسن، وأنقص جائزة الشعبي، فخرج الشعبي إلى المسجد فقال: أيها الناس! من استطاع منكم أن يؤثر الله على خلقه فليفعل، فوالذي نفسي بيده، ما علم الحسن شيئًا منه فجهلته، ولكن أردت وجه ابن هبيرة، فأقصاني الله منه[4].
وهذا عليان، وكانوا يعدونه من مجانين الكوفة، وما هو بذلك، إنما هو من عبادها.
يقول له المأمون: يا عليان! هل من حاجة فأقضيها؟ قال: نعم، أريد أن تنسئ في أجلي، وتتجاوز عن سيئاتي، وتغفر لي خطيئتي، فبكى المأمون، وقال: يا عليان! ليس هذا إليّ، أنا لا أقد أستخلصه لنفسي، فكيف أستخلصه لك؟ قال عليان: يا أمير المؤمنين! إن الله تبارك وتعالى لم يجعل أحدًا فوقك في عصرنا، فيجب عليك ألا يكون أحد أطوع لله منك، فقال له: عظنا يرحمك الله! قال: يا أمير المؤمنين إن الذي أكرمك بما أكرمك به يحب أن تحب له ما أحب، وتبغض له ما أبغض، فوالله، لقد أحب دارًا أبغضتَها، وأبغض دارا أحببتها، كأنما أردت خلافك ربك، أو أردت سواه، فاعلم يا أمير المؤمنين، أن الذي في يديك لو بقي على من كان قبلك إذًا لما صار إليك، وهكذا هو صائر إلى من بعدك، فاتق الله في خلافتك، واحفظ محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته، فبكى المأمون ثم أمر أن يحشى فمه درًّا وياقوتًا، فقال له: أعفني يا أمير المؤمنين، قال: فأعفاه ثم خرج من عنده، فقيل له: لِمَ لمْ تقبل جوائز أمير المؤمنين؟ قال: خشيت أن أمنع جوائز رب العالمين، ثم ولى وهو يقول:
كم ملوك عن الدار تفانوا *** وخلت منهم هناك البيوتُ
فسلِ الربع والمنازل عنهم *** هل تُنبِّيك عنهم أم سكوت
حب من شئت فهْو بالموت فإن*** غير أني أحببت من لا يموت.
وانظر إلى المحدث الزاهد شيخ الإسلام بنان الحمال، امتحن في ذات الله فصبر، وارتفع شأنه، قال أبو علي الروذباري: كان سبب دخولي مصر، حكاية بنان الحمال، وذلك أنه أمر ابن طولون بالمعروف، فأمر به أن يلقى بين يدي السبع، قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك؟ قال: كنت أتفكر في سؤر السباع ولعابها، ثم ضُرب سبع دِرر.
ذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن القاضي أبا عبيد الله، احتال على بُنان حتى ضربه سبع دِرر، فقال: حبسك الله بكل درة سنة، فحبسه ابن طولون سبع سنين، والجزاء من جنس العمل[5].
وانظر رحمك الله إلى سلطان العلماء العز بن عبد السلام.
قال الشيخ الباجي: طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان أيوب الملك الصالح، في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب! ما حجتك عند الله، إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى ذلك؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعم هذه المملكة، يناديه هكذا بأعلى صوته، والعساكر واقفون، فقال: يا سيدي! هذا ما أنا عملته، هذا من زمان أبي، فقال: أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.
قال الباجي: سألت الشيخ: لما جاء من عند السلطان، وقد شاع الخبر: يا سيدي! كيف الحال؟ فقال: رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فقلت: يا سيدي! أما خفته؟ فقال: والله يا بني! استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قدّامي كالقط.
وقد توفي رحمه الله في عهد الظاهر بيبرس، ولما مرت الجنازة تحت القلعة، وشاهد كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: اليوم استقرَّ أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه، لانتزع الملك مني[6].
وانظر يا أخي! إلى هذا الشيخ الذي ذكر دينه، ونسي دنياه إلى الشيخ حسن العدوي، عندما زار السلطان العثماني عبد العزيز مصر في عهد إسماعيل باشا، كان إسماعيل حفيًّا بالزيارة؛ لأنها كانت جزءًا من برنامجه للحصول على لقب خديوي، مع عدة امتيازات في نظام الحكم بمصر، وكان من برنامج الزيارة أن يستقبل الخليفة العلماء في السراي، ولما كنت للمقابلة السنية تقاليد، منها أن ينحني الداخل إلى الأرض، وغير ذلك من التقاليد السخيفة المنافية لروح الإسلام، فقد كان حتمًا على رجال السراي أن يدربوا العلماء على طريقة المقابلة عدة أيام، حتى لا يخطئوا في حضرة السلطان، وعندما حان الموعد دخل السادة العلماء، فنسوا دينهم واشتروا دنياهم، وانحنوا أمام مخلوق مثلهم تلك الانحناءات، وخرجوا موجهين وجوههم إلى الخليفة كما أمرهم رجال التشريفات، إلا عالمًا واحدًا وهو حسن العدوي، استحضر في قلبه أن لا عزة إلا لله، ودخل مرفوع الرأس كما ينبغي أن يدخل الرجال، وواجه الخليفة بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين! وابتدره بالنصيحة التي ينبغي أن يتلقى بها العالم الحاكمَ، دعاه إلى تقوى الله، والخوف من عذابه، والعدل والرحمة بين رعاياه، فلما انتهى سلّم وخرج مرفوع الرأس، وأُسقط من يد الخديوي ورجال السراي، وظنوا أن الأمر كله قد انقلب عليهم، وأن السلطان لابد غاضب، فضائعة تلك الجهود التي بذلوا، والآمال التي نسجوا، ولكن كلمة الحق المؤمنة لا تذهب سُدى، فلا بد أن تصدع القلوب، قوية حارة كما نبعت من مكمنها قوية حارة، وهكذا كان، فقال السلطان: ليس عندكم إلا هذا العالم، وخلع عليه دون سواه[7].
والجزاء من جنس العمل، قال المناوي: إذ خاف الله العبدُ قدم المفعول؛ اهتمامًا بالخوف، وحثًّا عليه، أخاف اللهُ منه كل شيء، لأن الجزاء من جنس العمل، كما تدين تدان، فكما شهد الحق بالتعظيم، ولم يتعد حقوق الحكيم، ألبسه الهيبة، فهابه الخلق بأسرهم، وحكم عكسه عكس حكمه[8].
-----------------
[1] مدارج السالكين (2/ 382).
[2] سير أعلام النبلاء (21/ 455).
[3] سير أعلام النبلاء (21/ 454- 455).
[4] مواعظ ومواقف للعلماء والصالحين أما الحكام والسلاطين ص77، تأليف أحمد رضوان أبي الخير.
[5] سير أعلام النبلاء (14/ 489)، البداية والنهاية (11/ 158- 159).
[6] مواعظ ومواقف ص155- 156.
[7] مواعظ ومواقف 159.
[8] فيض القدير للمناوي (1/ 332).
الكاتب: د. سيد حسين العفاني.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.